بعد يومين من التتبع، والاطلاع على معطيات جغرافية وعمرانية، والاستماع لشهادات متطابقة من عين المكان، يتضح أن ما عرفته آسفي خلال الفيضانات الأخيرة لا يمكن اختزاله في “غضب الطبيعة” وحده، ولا يجوز في المقابل تحميل المسؤولية بلغة الاتهام المباشر. ما جرى يستدعي قراءة هادئة، علمية، ومسؤولة… قراءة تُظهر الحقيقة كما هي، وتفتح باب التصحيح بدل تبادل اللوم.
ماذا تقول الجغرافيا؟
آسفي مدينة ساحلية تقوم على هضبة مطلة على المحيط الأطلسي، وتخترق مجالها الحضري أودية ومجاري مائية موسمية، أبرزها أودية تنحدر من المرتفعات الداخلية نحو الساحل. هذا المعطى وحده يجعل المدينة حساسة لتجمع مياه الأمطار، خاصة عند التساقطات القوية والمركزة زمنياً.
لكن، من منظور الجغرافيا الطبيعية الصرفة، آسفي ليست مدينة فيضانية بطبيعتها مثل بعض المدن المقامة داخل الأحواض المغلقة أو المنخفضات الطبوغرافية الحادة. انحدارها نحو البحر يفترض ـ نظرياً ـ تصريفاً طبيعياً للمياه، لا احتجازها.
أين يبدأ الخلل؟
التحليل يُظهر أن نقطة الضعف لا تكمن في التضاريس وحدها، بل في التفاعل بين الطبيعة والتخطيط الحضري. توسع عمراني سريع، أحياء نشأت بمحاذاة مجاري مائية قديمة، قنوات تصريف لم تُحدّث بما يواكب التحولات المناخية، ومناطق إسفلتية واسعة تمنع تسرب المياه إلى التربة… كلها عوامل حولت المطر من نعمة موسمية إلى خطر ظرفي.
الفيضانات الأخيرة كشفت أن بعض شبكات الصرف لم تعد تستوعب حجم التدفقات الجديدة، خصوصاً مع تغير نمط التساقطات (أمطار قوية في وقت قصير)، وهو نمط تؤكده التقارير المناخية الحديثة على مستوى العالم.
هل البنية التحتية وحدها السبب؟
الجواب المهني: لا… لكنها عنصر حاسم.
البنية التحتية لا تُقاس فقط بوجود القنوات، بل بقدرتها الاستيعابية، بصيانتها الدورية، وبانسجامها مع الامتداد العمراني. حين تتوسع المدينة دون مراجعة شاملة لشبكات التصريف، يصبح أي حدث جوي استثنائي اختباراً قاسياً، والنتيجة ما رأيناه: شوارع غارقة، حركة مشلولة، وقلق مشروع لدى السكان.
ما الذي لا يجب قوله؟
لا يصح القول إن آسفي “مدينة منكوبة بطبيعتها”، كما لا يصح تصوير ما وقع كحادث معزول وعابر. الحقيقة تقع بين الأمرين: مدينة ذات حساسية جغرافية، واجهت ضغطاً مناخياً استثنائياً، فوق بنية حضرية تحتاج إلى مراجعة عميقة.
دعوة لا اتهام
هذا التحليل لا يوجّه أصابع الاتهام، بل يرفع إشارة تنبيه. آسفي، مدينة الفوسفاط والثروة السمكية، ليست مدينة هامشية. ما وقع ينبغي أن يكون نقطة انطلاق لتفكير جديد:
• تحيين خرائط المخاطر
• مراجعة شبكة تصريف المياه
• إدماج المعطى المناخي في التخطيط الحضري
• والاستثمار في الوقاية بدل الاكتفاء برد الفعل
ما جرى في آسفي ليس قدراً أعمى، ولا خطأ فردياً. هو نتيجة تراكب عوامل طبيعية وبشرية. والسلطة الرابعة، حين تؤدي دورها، لا تصرخ للتشهير، بل تكتب لتصحيح المسار.
آسفي اليوم لا تطلب الشفقة، بل التفاتة مسؤولة… التفاتة تجعل من هذا الحدث درساً، لا مجرد خبر عابر في موسم الأمطار