لم تُكسر الأبواب، ولم تُخترق المنصة، ولم يُحرم الجمهور من حقه لحظة الانطلاق. كل شيء جرى “بشكل قانوني”… هكذا على الأقل في الظاهر. التذاكر عُرضت عبر المنصة الرسمية، البيع تم بسلاسة، والمساطر كانت واضحة. لكن ما لم يكن مرئيًا في تلك اللحظة، هو أن بعض الأصابع التي ضغطت زر “شراء” لم تكن تنوي الجلوس في المدرجات، بل كانت تحجز مقاعدها في السوق السوداء منذ البداية.
خلال وقت وجيز من طرح تذاكر مباريات المنتخب الوطني ضمن منافسات كأس إفريقيا للأمم، خرجت التذاكر من مسارها الطبيعي، وانتقلت من فضاء البيع المشروع إلى واجهات المتاجر الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. نفس التذكرة، بنفس الرمز، بنفس الصيغة الرقمية، لكنها بثمن آخر… ثمن لا علاقة له لا بالتسعيرة الرسمية ولا بمنطق تشجيع منتخب يمثل الجميع.
هنا لا نتحدث عن تزوير أو قرصنة، بل عن سلوك أكثر دهاءً وخطورة: شراء مكثف بنية المضاربة. أشخاص ولجوا المنصة كمستهلكين عاديين، لكن بعقلية تجارية صرفة، اقتنوا عدة تذاكر دفعة واحدة، ثم أعادوا ضخها في السوق بثمن مضاعف، مستغلين الإقبال الكبير، وضيق الوقت، وشغف الجمهور الذي لا يريد أن يفوّت لحظة وطنية جامعة.
بهذا المعنى، لم تفشل المنصة تقنيًا، بل جرى الالتفاف على روحها. فالمنصة وُجدت لضمان تكافؤ الفرص، لا لفتح باب خلفي أمام السماسرة. غير أن غياب قيود صارمة على عدد التذاكر المقتناة، وعدم ربط التذكرة بشكل فعلي بهوية صاحبها، جعلا من البيع المشروع مجرد مرحلة أولى في سلسلة مضاربة مكتملة الأركان.
النتيجة كانت صادمة: مشجع حقيقي يتابع المنصة في وقتها، يلتزم بالقانون، ثم يكتشف أن التذكرة التي نفدت بسرعة تُعرض بعد ساعات في الفضاء الرقمي بثمن خيالي. وفي المقابل، سوق سوداء تشتغل في العلن، بلا خوف ولا تمويه، وكأن ما تقوم به أمر عادي لا يستوجب المساءلة.
هذا التحول من “سمسرة الأرصفة” إلى “سمسرة رقمية” يطرح إشكالًا أعمق من مجرد غلاء الأسعار. نحن أمام استغلال منظم للطلب الجماهيري، وأمام فراغ تشريعي وتنظيمي يسمح بتحويل الحق في التشجيع إلى سلعة خاضعة لمنطق العرض والطلب، لا لمنطق العدالة والإنصاف.
الأخطر أن هذه الممارسات تضرب في العمق صورة التنظيم، وتُفرغ الخطاب الرسمي حول بطولة قريبة من الجمهور من محتواه. فلا معنى لمنصة إلكترونية حديثة إذا كانت تُستعمل كأداة لتغذية السوق السوداء بدل تجفيفها، ولا قيمة لبيع “قانوني” إذا كان ينتهي بإقصاء غير معلن للفئات التي لا تستطيع مجاراة جنون الأسعار.